في الثامن من ديسمبر 2024، وفي أعقاب سقوط نظام الأسد وانسحاب جيشه من الجنوب السوري، ، أمر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الجيش الإسرائيلي بالسيطرة على المنطقة العازلة جنوب غربي سوريا، وقمة جبل الشيخ والمواقع المجاورة لها، تحت مسمى “تأمين حدود إسرائيل” في مواجهة الواقع الجديد.
وقد شملت العملية، التي أُطلق عليها لاحقاً اسم “سهم باشان”، حملة واسعة النطاق بأكثر من 480 غارة جوية في جميع أنحاء سوريا، شملت الأهداف التي تم تحييدها ما يقرب من 70% إلى 80% من مخزون سوريا من الأسلحة الاستراتيجية، بالإضافة إلى التدمير شبه الكامل للقوات الجوية والبحرية السورية. كما طال القصف قواعد جوية رئيسية، ومنشآت راداريه، ومراكز قيادة، ومراكز بحوث علمية، أبرزها مركز البحوث العلمية بمنطقة برزة في دمشق التي كانت محوراً للبرامج العسكرية المتقدمة.
أما على الأرض، فكانت النتيجة المباشرة لهذه العملية هي الاستيلاء على قمة جبل الشيخ الاستراتيجية. وسرعان ما شرعت قوات الاحتلال في إنشاء مواقع وقواعد عسكرية جديدة داخل الأراضي السورية.
القواعد المنشأة حديثاً: حزام أمني جديد
لم تكتفِ قوات الاحتلال بالسيطرة على قمة جبل الشيخ، بل سارعت إلى ترسيخ وجودها هناك عبر تحصين الموقع، واستقدام غرف مسبقة الصنع، وإنشاء مهبط للطائرات المروحية، في دلالة واضحة على نية البقاء طويل الأمد.
تمنح قمة جبل الشيخ، بارتفاعها البالغ 2,814 متراً، أفضلية استراتيجية حاسمة للجهة التي تسيطر عليها؛ إذ تتيح الإشراف على مساحات شاسعة من سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، ووضع العاصمة دمشق تحت المراقبة المباشرة، فضلاً عن توفير قدرة إنذار مبكر من خلال نشر أنظمة رادار متقدمة قادرة على كشف الأهداف الجوية على مسافات بعيدة.
ولم يقتصر التوغل الإسرائيلي على القمة فحسب، بل امتد ليشمل إنشاء شبكة من القواعد والمواقع العسكرية داخل المنطقة العازلة أو بمحاذاتها، مُشكِّلاً بذلك حزاماً أمنياً متقدماً داخل الأراضي السورية.
في ريف القنيطرة الشمالي، ثبّتت قوات الاحتلال وجودها في ثلاث نقاط رئيسية:
● النقطة الأولى: التلول الحمر شمال شرق بلدة حضر ذات الغالبية الدرزية، وتكمن أهميتها في موقعها الذي يربط قرى جبل الشيخ (التابعة إدارياً لريف دمشق الغربي) بمحافظة القنيطرة. زوّد الاحتلال هذه التلول بدبابات ومدرعات وأسلحة ثقيلة وخفيفة، لتكون قاعدة انطلاق لتوغلاته نحو قرى جبل الشيخ.
● النقطة الثانية: قرص النفل شمال غرب بلدة حضر، حيث أنشأ الاحتلال مهبطًا للطائرات، ما جعل الموقع قاعدة متقدمة لعملياته في المنطقة.
● النقطة الثالثة: بلدة جباثا الخشب، وتحديداً في المحمية الطبيعية غرب البلدة، التي أعلن الاحتلال تحويلها إلى منطقة عسكرية مغلقة. قامت قواته بتجريف نحو 50 دونمًا من الأشجار لإنشاء القاعدة، كما حرمت الأهالي من نحو 7000 دونم من أراضيهم الزراعية. وأدى ذلك إلى التضييق على السكان وحرمانهم من مصدر رزقهم الأساسي وتدمير الغطاء النباتي. تُعتبر هذه القاعدة نقطة انطلاق للتوغلات شبه اليومية في قرى الريف الشمالي، مثل جباثا الخشب وطرنجة وأوفانيا، وتضم دبابات ميركافا، وجرافات، وآليات عسكرية، ومدفعية ثقيلة، إضافة إلى مهبط للطائرات.
وفي نقطة الوصل بين الريف الشمالي والأوسط، وبالقرب من مركز المحافظة، أنشأ الاحتلال قاعدة عسكرية شمال غرب قرية الحميدية بعد انسحابه من مبنى المحافظة والمحكمة في مدينة السلام. جُهزت القاعدة بالإنارة والطريق الخاص، وتكشف المنطقة بشكل كامل، وتستخدمها قوات الاحتلال للانطلاق نحو قرى الريف الأوسط. أقيمت القاعدة على أراضٍ تعود لمواطنين سوريين بعد تهجيرهم، وتم هدم حيّ كامل في محيطها، وتجريف الأشجار المثمرة والحراجية، فضلاً عن تضرر البنية التحتية من طرقات وشبكات مياه نتيجة تحرك الدبابات داخل القرية.
كما أقام الاحتلال قاعدة عسكرية في مدينة القنيطرة المهدمة، الواقعة في منتصف المنطقة العازلة. تُعد من أهم القواعد بسبب قربها من المعبر مع الأراضي المحتلة سابقاً. فرض الاحتلال إجراءات أمنية مشددة حولها، وزرع كاميرات مراقبة، وجرّف الطرق المؤدية إليها وأعاد هيكلتها. تنطلق منها دوريات عسكرية للتوغل في قرى الريف الأوسط.
أما القاعدة الثانية في هذا القطاع فهي قاعدة العدنانية غرب قرية القحطانية، التي تشرف على أجزاء واسعة من الريف الأوسط، وتسيطر على سد المنطرة، أكبر سد في الجنوب السوري، معلنةً إياه منطقة عسكرية مغلقة باستثناء العاملين فيه. القاعدة محصنة بسواتر ترابية عالية، وتتنقل الدوريات منها وإليها عبر قاعدة القنيطرة المهدمة.
وفي الريف الجنوبي، وبعد انسحاب قوات النظام السابق من تل أحمر غربي، سيطر الاحتلال على الموقع الاستراتيجي الذي يكشف الريف الجنوبي وأجزاء من ريف درعا الشمالي والغربي. جُهز التل بالدبابات والآليات العسكرية ليصبح مركزاً للرصد والانطلاق نحو القرى المجاورة. يُذكر أن التل يقع خارج المنطقة العازلة، ويقابله تل أحمر شرقي الذي تتوغل فيه القوات أحيانًا. وتعود ملكيته لمواطنين سوريين حُرموا من أراضيهم الزراعية بعد أن أُحرقت وأُغلق محيطها أمام الرعي وحتى أمام دفن الموتى في المقبرة القريبة.

وفي أقصى الجنوب، بريف درعا الغربي في منطقة حوض اليرموك، سيطرت قوات الاحتلال على ثكنة الجزيرة قرب قرية معرية منذ اليوم الثاني لسقوط النظام. ووفقاُ لشبكة رصد سجل، عززت القوات وجودها هناك عبر شق طريق جديد يربط الثكنة بالشريط الحدودي وتزويده بالكهرباء وتعبيده لتسهيل الحركة اللوجستية. تُعتبر هذه الثكنة قاعدة متقدمة للتوغلات في حوض اليرموك، وتكتسب أهميتها من موقعها في منطقة زراعية غنية ووفرة مياهها، إذ يشكل نهر اليرموك شريانًا حيويًا لملايين السكان في سوريا والأردن. وبذلك، تمنح السيطرة عليها إسرائيل نفوذًا مباشرًا على واحد من أهم الموارد المائية والزراعية في الجنوب السوري.
من وجود مؤقت إلى دائم: رواية رسمية وحقائق على الأرض
على الرغم من أن الرواية الإسرائيلية الرسمية وصفت في البداية التوغل بأنه “إجراء دفاعي محدود ومؤقت” يهدف فقط إلى تأمين الحدود في ظل الفراغ الأمني، إلا أن التصريحات اللاحقة والأفعال على الأرض سرعان ما كشفت عن نية استراتيجية للبقاء طويل الأمد.
جاء التصريحات المباشرة التي نفت رواية الوجود المؤقت على لسان وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، الذي أمر الجيش بالاستعداد للبقاء على قمة جبل الشيخ طوال فصل الشتاء وربما “إلى أجل غير مسمى” واصفاً السيطرة على القمة بأنها لحظة تاريخية مؤثرة وعودة للسيطرة الإسرائيلية بعد 51 عاماً.
على الأرض ترجمت قوات الاحتلال هذه التصريحات إلى أفعال. حيث حولت وجودها إلى بنية تحتية دائمة من خلال التحصينات ومهابط الطائرات التي أنشأتها، حتى أنها عملت على إنشاء نقطتين طبيتين في منطقة حضر والحميدية.
مسار دبلوماسي شاق ومفاوضات مستمرة
لم يكن قرار الحكومة السورية المؤقتة الدخول في مفاوضات مع إسرائيل خياراً استراتيجياً، بل ضرورة فرضتها الحقائق القاسية على الأرض. فمع الانهيار العسكري الكامل للدولة والتوغل الإسرائيلي المتسارع، وجدت دمشق نفسها مضطرة للجلوس إلى طاولة التفاوض.
جرت هذه المفاوضات عبر ثلاثة مسارات متوازية:
● مسار باكو/أنقرة: ركّز على خفض التصعيد العسكري المباشر، بوساطة تركية وأذرية.
● مسار باريس: اتخذ طابعاً سياسياً وأمنياً أوسع بقيادة أمريكية، وكان يهدف إلى صياغة ترتيبات أمنية طويلة الأمد.
● المسار البريطاني: انطلق بمبادرة من لندن، مركّزاً على الجوانب الإنسانية وإعادة تفعيل قنوات الاتصال غير المباشر، مع محاولة لعب دور توازني بين المطالب الإسرائيلية والهواجس السورية.
الهدف المعلن من الجانب السوري كان احتواء التصعيد، ووقف التدخلات الإسرائيلية، وإعادة تفعيل اتفاقية فضّ الاشتباك لعام 1974. في المقابل، تمحورت المطالب الإسرائيلية حول إنشاء منطقة منزوعة السلاح في جنوب سوريا، وضمان عدم وجود أسلحة استراتيجية يمكن أن تهدد أمنها.
حتى الآن، لا يُسجَّل أي تقدم ملموس في هذه المفاوضات، ويبقى الخلاف الأساسي قائماً حول رفض إسرائيل الانسحاب من المواقع الجديدة التي احتلتها داخل المنطقة العازلة، خصوصاً قمة جبل الشيخ والتلول الحمر.
وتظل الأسئلة مفتوحة في هذا الوضع المعقد: هل ستقبل إسرائيل بالعودة إلى خطوط اتفاقية عام 1974؟ أم أن هناك صياغة لاتفاقية معدلة يجري التفاوض حولها؟ وإذا صحّ ذلك، فما الذي سيتبقى لأهالي القنيطرة من أراضيهم؟