الوضع الراهن.. مشهد حدودي جديد
هضبة الجولان، صيف أغسطس عام 2025، المنطقة العازلة التي ظلت هادئة لأكثر من خمسة عقود، لم تعد موجودة إلا على خرائط الأمم المتحدة. على الأرض، تتحرك دوريات جيش الاحتلال الإسرائيلي بحرية داخل ما كان يُعرف بمنطقة الفصل، وتنتشر تسع مواقع عسكرية إسرائيلية جديدة على أماكن استراتيجية فيها أو بمحاذاتها وفقاً لمركز سجل، بما في ذلك قمة جبل الشيخ، حيث كانت الأمم المتحدة تحتفظ بموقع مراقبة مأهول بشكل دائم. حل محل الخطوط الزرقاء والبيضاء التي كانت تفصل بين القوات سياج أمني جديد، وخنادق، وطرق عسكرية بنتها إسرائيل من جانب واحد.
أما قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك (UNDOF)، باتت مهمتها تقتصر على تسيير دوريات وتفتيش ثكنات جيش نظام الأسد وتسجيل انتهاكات لاتفاق لم يعد له وجود فعلي والتي كان آخرها جولة في قرية عين التنية جنوب القنيطرة بتاريخ 18 سبتمبر.

كيف تأسست المنطقة العازلة (1974)
ما بعد حرب أكتوبر 1973
لم تكن اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974 نتاج رغبة في السلام، بل ضرورة فرضتها وقائع ما بعد حرب أكتوبر 1973. فعلى الرغم من إعلان وقف إطلاق النار رسمياً، استمرت جبهة الجولان في الاشتعال. خاضت القوات السورية والإسرائيلية حرب استنزاف استمرت لأشهر بغرض السيطرة على عدة مواقع استراتيجية، خاصة على جبل الشيخ.
سُجل بين مارس ومايو 1974، أكثر من ألف حادثة عسكرية، بما في ذلك قصف مدفعي على البلدات في الجولان. وكانت إسرائيل قد احتلت خلال الحرب جيباً استراتيجياً جنوب غرب سوريا بمساحة 400 كيلومتر مربع، يضم هذا الجيب قمة جبل الشيخ وبلدة بيت جن وعدة قرى سورية، مما جعل قواتها على مشارف دمشق. هذا الوضع العسكري المتقدم منح إسرائيل ورقة ضغط، لكنه في الوقت نفسه وضعها في موقف استنزاف مستمر. وفرض ضرورة التوصل لاتفاق يوقف القتال الذي أنهك الطرفين. قاد وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر مفاوضات دبلوماسية استمرت لأشهر، وفي 31 مايو 1974، تم التوقيع على الاتفاقية في جنيف، لتضع حداً رسمياً لحرب أكتوبر وتؤسس لواقع جديد في الجولان.
بنود اتفاقية فصل القوات
كان الهدف الأساسي للاتفاقية هو منع أي احتكاك عسكري مباشر بين سوريا وإسرائيل، وذلك من خلال تصميم خريطة المنطقة بدقة لتحقيق الفصل المادي بين القوتين العسكريتين. وتضمنت هذه الخريطة ثلاثة عناصر رئيسية:
1- منطقة الفصل (Area of Separation – AOS): وهي منطقة عازلة منزوعة السلاح تقع بالكامل داخل الأراضي السورية، وتمتد على طول حوالي 80 كم وبعرض يتراوح بين 0.5 و 10 كم، بمساحة إجمالية تبلغ 235 كم مربع. تخضع هذه المنطقة للإدارة المدنية السورية، ولكنها تحت المراقبة العسكرية الحصرية لقوات الأمم المتحدة.
2- خطي ألفا وبرافو (Alpha and Bravo Lines): يحددان منطقة الفصل التي يتراوح عرضها من حوالي 10 كيلومترات (6.2 ميل) في أعرض نقطة لها في الوسط، إلى 200 متر فقط (حوالي 650 قدمًا) في أضيق نقطة لها في الجنوب.
خط ألفا هو الخط الغربي، الذي لا يجوز للقوات الإسرائيلية تجاوزه شرقاً. أما خط برافو فهو الخط الشرقي، الذي لا يجوز للقوات السورية تجاوزه غرباً.
3- مناطق تحديد الأسلحة والقوات (Areas of Limitation – AOL): تمتد هذه المناطق لمسافة 25 كم على جانبي منطقة الفصل (شرق خط برافو وغرب خط ألفا). في هذه المناطق، التزم الطرفان بفرض قيود صارمة على عدد الجنود ونوعية الأسلحة التي يمكن نشرها، بما في ذلك عدد الدبابات والمدفعية والصواريخ.
الدور الأممي: مراقبة لا فرض سلام
شكل مجلس الأمن الدولي بتاريخ 31 مايو 1974 بموجب قراره رقم 350 قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك (UNDOF)،لتطبيق هذه البنود. كانت ولاية القوة واضحة ومحددة: مراقبة وقف إطلاق النار، والإشراف على التزام الطرفين بالقيود المفروضة في منطقة الفصل ومناطق تحديد الأسلحة، وتقديم تقارير عن أي انتهاكات. أي مراقبة اتفاق تم التوصل إليه برضا الطرفين. وبالتالي، كان نجاحها يعتمد على تعاونهما. وقد نص الاتفاق على أن “هذا الاتفاق ليس اتفاق سلام. إنه خطوة نحو سلام عادل ودائم على أساس قرار مجلس الأمن 338“. هذا البند كان جوهرياً، لأنه سمح لسوريا بالتوقيع دون التنازل عن مطالبتها بالسيادة الكاملة على الجولان، ولإسرائيل بالحصول على أمن حدودي دون الالتزام بانسحاب كامل. نجح الاتفاق في تجميد الصراع عسكرياً، وهو ما ضمن استمراريته لعقود طويلة.
“الهدوء الطويل” – أربعة عقود من الجمود (1974-2011)
تحولت جبهة الجولان إلى واحدة من أهدأ الجبهات في العالم لأكثر من 37 عاماً هذا الهدوء كان نتيجة قبضة أمنية مطلقة من الجانب السوري فرضها نظام حافظ الأسد، ومن بعده بشار الأسد، حيث لم يكن يُسمح لأي جهة، سواء كانت فصائل فلسطينية أو غيرها، بالعمل انطلاقاً من هذه المنطقة. حتى دخول غير أبناء القنيطرة إليها كان يحتاج لتصريح من الأفرع الأمنية. كانت دمشق تدرك أن أي هجوم ينطلق من أراضيها سيؤدي إلى رد إسرائيلي مدمر يمكن أن يهدد استقرار النظام نفسه.
كما رضيت القوى الدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، بهذا الاستقرار الذي حال دون اندلاع حرب جديدة في المنطقة. واستفادت إسرائيل من الوضع القائم بما يخدم مصالحها الأمنية على نحو مثالي؛ إذ حصلت على حدود هادئة، ومنطقة عازلة، وتفوق استراتيجي، من دون أن تقدّم أي تنازل عن الأراضي التي احتلتها عام 1967.
بداية الانهيار – تداعيات الحرب في سوريا (2011-2022)
الخرق الأول للاتفاق
مع اندلاع الثورة السورية في عام 2011، بدأت اتفاقية 1974 بالانهيار.
اضطر نظام الأسد، إلى سحب وحدات من جيشه من منطقة الجولان الهادئة نسبياً وإعادة نشرها في جبهات أكثر اشتعالاً مثل درعا وريف دمشق وحمص. هذا الانسحاب خلق فراغاً أمنياً في منطقة الفصل ومناطق تحديد الأسلحة على الجانب السوري، وهو ما شكل أول خرق للاتفاقية.
وفي 15 مايو 2011، وبمناسبة ذكرى النكبة، سمحت السلطات السورية لآلاف المتظاهرين، معظمهم من اللاجئين الفلسطينيين، بالوصول إلى خط التماس، حيث نجح المئات منهم في اختراق السياج ودخول بلدة مجدل شمس المحتلة في حدث هو الأول من نوعه. وتكرر المشهد في 5 يونيو بذكرى النكسة، حين حاولت حشود أخرى اقتحام الشريط الشائك، إلا أن المواجهة كانت أعنف، حيث أدى إطلاق النار من قبل الجيش الإسرائيلي إلى مقتل ما لا يقل عن 20 متظاهراً وإصابة حوالي 350 آخرين
سيطرت فصائل المعارضة المسلحة، وعلى رأسها الجيش السوري الحر، على أجزاء واسعة من محافظة القنيطرة والمنطقة العازلة بين عامي 2012 و2014. وتحولت المنطقة التي عُرفت بالهدوء لعقود إلى ساحة قتال بين قوات النظام والمعارضة، ترافق ذلك مع سقوط متكرر لقذائف طائشة على الجانب الذي تحتله إسرائيل من الجولان، ما استدعى ردوداً عسكرية إسرائيلية محدودة.
ومع احتدام الصراع، برزت قوى جديدة في المشهد. فقد سيطرت جبهة النصرة على أجزاء من المنطقة، فيما شكّل التدخل الإيراني المباشر لدعم نظام الأسد التطور الأخطر. إذ بدأ فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، بالتعاون مع وكيله الرئيسي حزب الله اللبناني، بإنشاء بنية تحتية عسكرية في جنوب سورية. ولم يقتصر الهدف الإيراني على حماية النظام من الانهيار، بل اتخذ طابعًا استراتيجياً بعيد المدى تمثل في فتح جبهة جديدة ضد إسرائيل من الجولان، والسعي إلى تكرار “نموذج جنوب لبنان”.
أدّى تصاعد التهديد الإيرانيِّ إلى دفع إسرائيل نحو تبنّي استراتيجية استباقيّة نشطة عُرفت بـ”الحرب بين الحروب”. ومنذ عامِ 2013، شنّت إسرائيل مئات الغارات الجوية والهجمات الصاروخية داخل سورية، استهدفت بالدرجة الأولى تدمير شحنات الأسلحة المرسلة إلى حزب الله، وضرب القواعد العسكرية والبنية التحتية التي أنشأتها إيران، إضافةً إلى اغتيال قادة إيرانيين ومن الميليشيات الموالية لها. ومع هذا النهج، فقدت اتفاقية فضِّ الاشتباك لعام 1974 أهميتها العملية، إذ باتت إسرائيل تعمل عسكرياً في عمق الأجواء السورية، محولةً البلاد إلى ساحةٍ رئيسيّة في حربها ضد إيران.
مشروع “سوفا 53” وسقوط نظام الأسد (2022-2024)
ابتداءً من منتصف عام 2022، بدأت قوات الاحتلال الإسرائيلي في تنفيذ عملية هندسية واسعة النطاق داخل منطقة الفصل، في خرق واضح ومستمر للاتفاقية. لم يكن هذا توغلاً عسكرياَ مؤقتاً، بل كان مشروعاً استراتيجياً طويل الأمد يهدف إلى إعادة رسم الحدود الأمنية.
يتضمن المشروع، الذي يمتد على طول خط فض الاشتباك من غربي عين التينة في جبل الشيخ إلى جنوب الجولان، استخدام جرافات عسكرية مدرعة ودبابات لشق طريق جديد، وحفر خنادق عميقة، وإقامة سواتر ترابية ونقاط مراقبة متقدمة داخل الأراضي السورية، وتحديداً غرب بلدات مثل جباتا الخشب والحرية. توغلت القوات لمسافات تتراوح بين 100 متر و 2 كيلومتر داخل منطقة الفصل، مما أدى إلى تجريف أراضٍ زراعية ومنع المزارعين السوريين من الوصول إليها. كان الهدف هو إنشاء “ممر أمني” أو “حزام أمني” لتعزيز الدفاعات ضد تسلل محتمل من قبل حزب الله أو الميليشيات الإيرانية. كان هذا المشروع بمثابة اعتراف بأن اتفاقية 1974 قد ماتت عملياً.
سقوط نظام الأسد ونهاية الاتفاقية
أدت الهجمة الخاطفة التي شنتها فصائل المعارضة السورية إلى انهيار مفاجئ وسريع لنظام الأسد، فانسحب الجيش السوري من النقاط العسكرية في المنطقة العازلة. استغلت إسرائيل هذا الفراغ بشكل فوري وأعلن رئيس الوزراء الإسرائيليأن الاتفاقية “انهارت” لأن الجيش السوري “تخلى عن مواقعه”، وأصدر أوامره للجيش الإسرائيلي بالتحرك للاستيلاء على المنطقة العازلة لمنع “أي قوة معادية من التمركز على حدودنا”.
بالإضافة إلى التوغل داخل المنطقة العازلة، شنت إسرائيل حملة جوية واسعة النطاق بتاريخ 8 ديسمبر 2024 أطلقت عليها اسم “عملية سهم باشان“، استهدفت تدمير ما تبقى من الترسانة العسكرية السورية، بما في ذلك مخازن الأسلحة، وأنظمة الدفاع الجوي، والصواريخ الاستراتيجية، لمنع وقوعها في أيدي جهات غير مرغوب فيها وضمان التفوق الجوي الإسرائيلي المطلق.
حدود جديدة تُرسم بالقوة
مُحيت معالم منطقة فضّ الاشتباك تماماً من على الأرض. وتحولت المنطقة العازلة التي أنشأها اتفاق عام 1974 إلى منطقة تديرها إسرائيل بشكل أحادي ومباشر. يمثّل هذا الواقع الجديد ليس مجرد انتهاك للاتفاقية، بل إلغاءً كاملاً لها واستبدالاً بنظام أمني مختلف. فبدلاً من منطقة منزوعة السلاح تشرف عليها الأمم المتحدة، أصبحت المنطقة مساحة عسكرية إسرائيلية متقدمة، معززة بمواقع محصنة، وتقنيات مراقبة، وقوات منتشرة بشكل دائم. وقد صرّح وزير الدفاع الإسرائيلي بأن هذا الوجود العسكري سيستمر “إلى أجل غير مسمّى” لضمان أمن إسرائيل.
أما الحكومة السورية الجديدة فتبنّت نهجاً واقعياً، حيث صرّح الرئيس أحمد الشرع بوضوح أن سوريا ليست في وضع يسمح لها بالدخول في “مغامرة عسكرية غير محسوبة”، وأن أراضيها لن تُستخدم لمهاجمة إسرائيل. وعلى الصعيد الدبلوماسي، طالبت الحكومة رسمياً بانسحاب إسرائيل من جميع الأراضي التي استولت عليها، مؤكدةً أن الجولان أرض سورية محتلة. ولهذا، تجري حالياً محادثات مباشرة في محاولة لاحتواء الوضع الراهن وإعادة تفعيل اتفاقية 1974.