عاشت السويداء في الأيام الأخيرة قبل سقوط نظام الأسد واقعًا شديد التعقيد تداخلت فيه العوامل السياسية والاجتماعية. تبنّى الشارع، إلى حدّ كبير، رؤية وطنية جامعة ابتعدت عن الانقسامات الطائفية وتجاوزت الارتباط برموز فردية أو شعارات انعزالية. ظهرت في الوقت نفسه مواقف مغايرة بين بعض النخب، إذ اختار بعضهم نهجًا براغماتيًا يركز على مكاسب محلية، بينما انجذب آخرون ـ في بدايات الأمر بخطوات غير معلنة ـ نحو مشاريع خارجية أو توجهات انفصالية. كشف تبدل موازين القوى هذه الخيارات على نحو أوضح، وبلور خطوط التمايز بين من تمسك بمشروع وطني سوري شامل، ومن انجرف نحو مسارات جانبية حملت أخطار الانعزال والارتهان لقوى إقليمية ودولية. شكّل هذا التباين إحدى أبرز سمات المشهد السياسي والاجتماعي في السويداء عشية التحول السياسي.
تصاعدت أحداث تموز واشتدت الأزمة مع دخول قوات وزارتي الدفاع والداخلية التابعة للحكومة الانتقالية إلى السويداء، وذلك في سياق إشكاليات أمنية داخلية بين عشائر البدو ومجموعات محلية دفعت لتدخلهم. لكن سرعان ما انسحبوا بالتزامن مع الضربات الإسرائيلية التي استهدفت مواقع الأمن في المنطقة، وما تبع ذلك من دخول العشائر على خط المواجهة وتصعيد المشهد. كما برزت تدخلات خارجية بشكل أوضح، خصوصًا من بعض الفئات التي جرى بينها تواصل مع قسد، ومن أبرزها داعمي مؤتمر “وحدة الموقف ” في الحسكة، حيث أخذت قسد لتشكيل قاعدة جماهيرية في السويداء من قبل سقوط الأسد. واستثمرت قسد الوضع الراهن لتوسيع نفوذها عبر مبادرات إنسانية ذات أبعاد سياسية، مثل ما قامت به “منظمة الهلال الأحمر الكردي في شمال شرق سوريا”، من تقديم دعم مباشر لمرضى السرطان في السويداء، شمل تأمين الأدوية وصرف الوصفات الطبية مجانًا، إضافة إلى جلسات علاج مجانية. كما عملت على فتح قنوات تواصل معلنة مع الشيخ الهجري، الذي بات يشكل محورًا أساسيًا في المشهد
اتسمت خريطة الولاءات داخل الطائفة اليوم بقدر من الوضوح النسبي، حيث اتحدت غالبية الدروز تحت قيادة الهجري، حتى بالنسبة للأشخاص والنشطاء والمدنيين الذين كانت مواقفهم الشخصية أكثر استقلالية أو معارضة سابقًا. وغيرت بعض الحركات، مثل “حركة رجال الكرامة” مواقفها بعد الأحداث وركزت على دعم مسار الطائفة في هذا السياق، مع إدراك جزء منهم أن الولاء ليس خيارًا نابعًا من قناعة شخصية بالكامل، بل أصبح ضرورة لفقدان أي خيار آخر في المحافظة. وعلى الجانب الآخر، تبرز أصوات معارضة من بينهم أبرز الشخصيات الصريحة التي تظهر بمواقفها على الملأ، مثل “ليث البلعوس” و”سليمان عبد الباقي”، الذين يواصلون بموقفهم. كما توجد أصوات من مدنيين المحافظة بعيداً عن حركات او فئات سياسية ومسلحة، وتعمل هذه الأصوات على دعم حلول بعيدة عن الانفصال، وتروّج لها عبر مواقع التواصل لتعزيز تأثيرها، مؤكدين أن أي مشروع انفصال أو تبني رموز خارجية مثل العلم الأزرق يمثل خطرًا على مستقبل الطائفة.
استندت هذه المقالة إلى مقابلات أُجريت مع شخصيات من داخل المحافظة وخارجها، عبّرت عن مواقف متباينة تجاه قضية الولاء والانفصال. أشار صادق، (42 عاما) وهو مقيم خارج السويداء، إلى أن الانسياق وراء خيار الانفصال يشكّل حبل مشنقة جديدًا يزيد من معاناة السكان ويضاعف من عزلتهم. كما أوضح النبواني (٥٤ عاما) أن الولاء الحقيقي ينبغي أن يكون للوطن، مؤكدًا أن الانتماء الوطني لا يُقاس بالارتباط بأي سلطة قائمة. وأضافت شخصيات أخرى في المقابلات أن الاعتماد على إسرائيل لا يمثل خيارًا سياسيًا مستدامًا، بل يعكس رد فعل لحظي على المجازر والانتهاكات التي شهدتها المحافظة.
في المقابل، تتبنى فئة أخرى من الطائفة خيار الانفصال أو الانخراط في علاقات مع الإسرائيلي، معتبرة أن هذا الخيار ضروري لحماية السويداء والطائفة من التهديدات المباشرة التي واجهتها. ويقول صفايا (38 عاما) بأن البقاء تحت راية إسرائيل مطلب أساسي مهما تغيرت معطيات الواقع، مؤكدًا أن الأزرق هو الضامن الوحيد لوضع المحافظة في ميزان القوة بشكل دائم، ومشيرًا لجوانب اجتماعية أيضاً مثل تحسن المعيشة، بعيدًا عن آراء الواقع السياسي. وهذه الفئة عممت برأيها على الانفصال الكامل بالإشارة لخذلان دعم ملموس من بقية المحافظات السورية تجاههم، حيث تشير آرائهم إلى أن الغالبية العظمى قد دعمت وشاركت في أعمال أدت إلى استهداف السويداء.
هذا الانقسام يعكس بوضوح توترات الولاءات بين الرغبة في الحفاظ على وحدة الوطن من جهة، والبحث عن ما يسمى بـ “الحماية الطارئة” عبر خيارات خارجية من جهة أخرى. فالغالبية في هذا السياق، وهم سكان المحافظة بشكل عام، يؤيدون المسار الذي يميل نحو الانفصال، وتنحصر هذه الأصوات تحت راية الشيخ الهجري، ويرون أن مصالح الطائفة تتفوق على الولاء الوطني، معتبرين أن أي حديث عن الوفاء للوطن في الوقت الحالي لا يوازي هذه “التهديدات المباشرة لهم”. وفي المقابل، تشدد فئة أخرى على الاستقلال التام، حتى بعيدًا عن أي وصاية خارجية مثل إسرائيل. ويؤكد أبو رسلان (41 عامًا)، صاحب متجر غذائي في المحافظة، أن السويداء يجب أن تبقى بعيدة عن أي جهة قد تسعى للتفاوض عليها في المستقبل، معتبرًا أن ذلك يشكل تهديدًا لقدرتهم على اتخاذ قراراتهم بشكل مستقل.
وفي خضم هذا المشهد المتشابك في الولاءات يبرز طرف ثالث لا يقل حضورًا عن سواه، طرف يستلهم تجربة “قسد” ويضفي عليها طابعًا مثاليًا، فيعتبرها النموذج الأجدر بالاحتذاء. حيث أكدت الناشطة بو حمدان (٢٧ عامًا) التي تشيد بخطوات الإدارة الذاتية هناك، وترى فيها مسارًا متكاملًا يفتح أفقًا جديدًا لمجتمع المحافظة هنا، قائلة: أن بلوغ مجتمع السويداء مستوى مماثل لقسد ليس خيارًا على الصعيد السياسي فحسب، بل ضرورة تمتد لتشمل كافة المستويات، من الإدارة المحلية وحتى التعليم والصحة.
تمر السويداء اليوم في لحظة حرجة تتشابك فيها الضغوط الداخلية مع التدخلات الخارجية، وتتقاطع فيها الحسابات الطائفية مع المصالح الفردية. واجهت الأصوات المعارضة، رغم وضوح موقفها الوطني الرافض للانفصال والتبعية، صعوبات جمّة في الوصول إلى المجال العام أو التأثير في مساراته، نتيجة تراجع وزنها الاجتماعي والسياسي، فضلًا عن الضغوط الأمنية والاقتصادية التي حدّت من حركتها. تحركت غالبية السكان في المقابل وفق منطق البراغماتية والبقاء، مستجيبة لتراكمات الغضب من الماضي والحاضر، ومعتمدة أحيانًا على دعم ضمني أو مباشر من قوى خارجية، حاولت بدورها استثمار نقاط ضعف المجتمع المحلي لترسيخ نفوذها السياسي والأمني.
أظهر هذا المشهد ملامح صراع متنامٍ، تتداخل فيه حسابات الداخل مع رهانات الخارج، وتبرز من خلاله احتمالات اتساع الفجوة بين التيارات الوطنية والتيارات الانعزالية. وقد تعكس التطورات المقبلة مزيدًا من وضوح هذه التباينات، مع ترجيح ظهورها بشكل أوسع وأشد حضورًا في الأيام القادمة، الأمر الذي يجعل مستقبل السويداء مرهونًا بقدرة الفاعلين المحليين على تجنيبها مسار الانقسام الحاد أو الارتهان الكامل لمشاريع إقليمية ودولية.