كلُّ ما نعرفه عن السوريين المغيّبين في سجون الاحتلال

تتفاقم المأساة الصامتة في جنوب غرب سوريا منذ التحوّل الجذري في المقاربة الأمنية الإسرائيلية عقب السابع من أكتوبر 2023، مروراً بحرب لبنان عام 2024، وصولاً إلى سقوط نظام الأسد وتوغّل الاحتلال في المنطقة العازلة، ما أسفر عن سلسلة مداهمات واحتجازات طالت عشرات المدنيين، أُفرج عن بعضهم بعد أيام، فيما لا يزال آخرون مغيّبين حتى الآن، إذ تركّز هذه المقالة حصراً على السوريين الذين احتجزتهم قوات الاحتلال الإسرائيلي ولا يزالون مغيّبين حتى تاريخ نشر هذه المقالة.

تستند هذه المقالة على شبكة رصد مركز سجل في الجنوب السوري، بالإضافة إلى التثبّت مما نشره ناشطون مستقلون وجهاتٌ مختلفة ومقاطعة هذه الروايات مع بعضها البعض. 

كما يتواصل مركز سجل باستمرار مع عددٍ من المحامين داخل الأراضي المحتلة الذين يعملون على متابعة قضايا المحتجزين السوريين ووضعهم القانوني والصحي.

كم العدد؟

وثّق فريق سجل اختفاء ما لا يقلّ عن 42 سوريا في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ستةٌ منهم جرى احتجازهم قبل سقوط نظام الأسد بأشهر قليلة، من بين هؤلاء صدام حسن أحمد (18 عاماً) الذي كان يرعى الماشية قرب شريط فضّ الاشتباك في قرية جباثا الخشب بريف القنيطرة الشمالي، قبل أن يحتجزه جنود الاحتلال بتاريخ 25 أبريل 2024.

أما المتبقّون، البالغ عددهم 36 محتجزاً، فقد تنوّعت ظروف احتجازهم. وُجّهت، مثلاً، لاثنين منهم تهمة الانتماء إلى فيلق القدس وميليشيا حزب الله، وهما علي العاصي من صيدا الحانوت جنوب القنيطرة وغيث العبد الله من قرية الأصبح التي تقع جنوب القنيطرة أيضاً، حيث نشر الاحتلال الإسرائيلي مقطع فيديو يعترف فيه بالعمل لصالح ما وُصق بـ”تنظيمات إيرانية”.

كيف تتمّ الاحتجازات؟ 

منذ توغّل الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة العازلة، رصد فريق سجل حملات دهم واحتجاز واسعة النطاق في أرياف القنيطرة ودرعا وريف دمشق. كانت أولى هذه الحملات في ريف القنيطرة الأوسط، حين داهمت قوات الاحتلال فجر 21 ديسمبر 2024 منزل علي حمادة في بلدة جبا واحتجزته مع صهره نائل المشعل بتهمة الانتماء إلى ميليشيا حزب الله. غير أن والدة نائل نفت هذه الاتهامات في مقابلة مع مركز سجل، مؤكّدةً أن ابنها مدني وطالب جامعي لا علاقة له بأي تشكيل مسلّح.

وفي 28 أبريل 2025، اقتحمت قوات الاحتلال قرية الدواية في ريف القنيطرة الجنوبي واحتجزت محمد الكريان، القيادي السابق في غرفة عمليات الجنوب، بعد أن أبلغت عائلته بعبارة: “ودّعوه، فلن تروه مجدداً”.

لاحقاً، أصدرت قوات الاحتلال الإسرائيلي بياناً زعم فيه أن محمد الكريان وزيدان الطويل المنحدر من قرية حضر في ريف القنيطرة الشمالي ذات الغالبية الدرزية، هما عنصران ميدانيان يتبعان للوحدة 840 في فيلق القدس، وأنهما قاما خلال الأشهر السابقة بتجنيد شبان في سوريا للعمل مع الوحدة عبر الرشوة المالية، من دون توضيح الدوافع الحقيقية وراء ذلك.

وثّق فريق سجل تصاعد حملات المداهمة والاحتجاز الإسرائيلية في محافظة القنيطرة خلال أشهر الصيف من عام 2025، حيث امتدّت العمليات من الريف الشمالي إلى الجنوبي، واستهدفت مدنيين بينهم من كانوا قاصرين. ففي 29 يونيو، احتجزت قوات الاحتلال ثلاثة شبان من قرية طرنجة بريف القنيطرة الشمالي بعد مداهمة شنتها في القرية، هم: وديع بكر، ورامي بكر، ومحمد ليلا، بزعم أنهم “مشتبه بهم في نشاطات إرهابية”. وفي 7 يوليو، نفّذ جيش الاحتلال مداهمة واسعة في ريف القنيطرة الجنوبي، شملت قرية الدواية الكبيرة حيث احتُجز الشقيقان عدنان وأحمد الكريان، والأخير معتقل سابق في سجن صيدنايا أُفرج عنه عقب سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر 2024. كما طالت الحملة قرية عين الزيتون المجاورة، واحتُجز فيها الطفل شادي الكريان (17 عاماً)، وهو ابن شقيق محمد الكريان المعتقل في سجون الاحتلال منذ أبريل الماضي.

وشهدت قرية سويسة في ريف القنيطرة الجنوبي حملة مماثلة أسفرت عن احتجاز الشقيقين ميزر وماجد الهتيمي وقريبهما سعود الهتيمي، في حين داهمت القوات قرية عين زيوان المجاورة لقرية سويسة واحتجزت شابين أُفرج عن أحدهما لاحقاً، بينما لا يزال الآخر، دحّام الصالح، قيد الاحتجاز حتى اليوم. أعقب تلك العمليات بيان رسمي لجيش الاحتلال زعم فيه أن جميع المحتجزين “ينشطون لصالح فيلق القدس الإيراني”.

بتاريخ 29 يوليو، توغّلت دورية إسرائيلية في قرية الصمدانية الشرقية بريف القنيطرة الأوسط واحتجزت الشاب محمد الجمعة من أمام منزله، دون أن تُصدر أي بياناً يوضّح سبب الاحتجاز. وبتاريخ 11 أغسطس، احتجزت قوات الاحتلال الشاب كنان محمد بكر من منزله في قرية طرنجة بريف القنيطرة الشمالي، بعد أن كانت قد احتجزته مطلع العام لفترة وجيزة. وأفاد شهود أن القوات صادرت كمية من الأسلحة عُثر عليها في منزله أثناء المداهمة.

بعد أسبوع، بتاريخ 28 أغسطس، داهمت القوات قرية رويحينة في ريف القنيطرة الأوسط واحتجزت الشاب أحمد إبراهيم حسين، تلاها في اليوم التالي احتجاز الشاب بشار خالد الجاسم من القرية ذاتها. وفي 3 سبتمبر، نفّذت القوات مداهمة في قرية جباثا الخشب شمال القنيطرة، واحتجزت الشاب حسن إبراهيم أحمد (19 عاماً) أثناء وجوده في منزل أقاربه. وبحسب مصادر محلية، اعتقلت معه ستة أشخاص آخرين كانوا في سهرة عائلية، قبل أن تُفرج عنهم وتُبقي عليه قيد الاحتجاز رغم صغر سنّه.

وفي 17 سبتمبر، شنّت القوات حملة جديدة طالت قريتي أوفانيا وجباثا الخشب، واحتجزت من أوفانيا التوأم محمد ومحمود معتصم مريود (مواليد 2008)، ومن جباثا الخشب الشاب يوسف أحمد السليمان (مواليد 2006)، دون أن تُصدر أي بيانات توضيحية بشأن أسباب الاحتجاز.

كانت آخر حادثة احتجاز وثّقها مركز سجل في الأسبوع الأخير من أكتوبر حيث احتجزت قوات الاحتلال الشاب وليد منصور أثناء مروره من إحدى نقاط التفتيش المقامة بين قريتي أوفانيا وجباثا الخشب بريف القنيطرة الشمالي.

أما في محافظة درعا، فقد رصد فريق سجل استمرار الانتهاكات الإسرائيلية ضد المدنيين في القرى القريبة من حوض اليرموك. بتاريخ 29 يونيو 2025، فتحت قوات الاحتلال الإسرائيلي نيرانها على شابين من قرية صيصون أثناء مرورهما قرب ما يُعرف بـ”ثكنة الجزيرة” في قرية معرية بريف درعا الغربي، ما أدّى إلى إصابتهما واحتجازهما وهما جريحان دون السماح بنقلهما لتلقي العلاج. وبتاريخ 4 أكتوبر 2025، نفّذت القوات حملة مداهمة فجرية في قرية جملة ضمن منطقة حوض اليرموك، أسفرت عن احتجاز ثلاثة شبان هم: محمد السموري، ومحمود البريدي، ومحمد البريدي. ولم تُصدر قوات الاحتلال أي بيان يوضّح أسباب الاحتجاز أو مكان احتجازهم.

لم تُسجّل سوى مداهمة واحدة منذ التوغّل الإسرائيلي في ريف دمشق، جرت في بلدة بيت جن فجر 12 يونيو 2025. خلال العملية، أطلقت قوات الاحتلال النار على شاب من ذوي الاحتياجات الخاصة خرج مذعوراً من منزله إثر الاقتحام المفاجئ، ما أدى إلى إصابته بجروح بليغة وتركه ينزف حتى فارق الحياة أمام منزله. وأسفرت الحملة عن احتجاز سبعة شبان بينهم شقيقان، وجميعهم من أقارب الضحية. وزعمت قوات الاحتلال أن المحتجزين ينتمون إلى حركة حماس، وأنهم “كانوا يروّجون لمخططات تستهدف الكيان المحتل”.

الفراغ القانوني: “مقاتل غير شرعي”

“مقاتل غير شرعي” هو التصنيف الذي تُلحقه سلطات الاحتلال الإسرائيلي بالمحتجزين السوريين في سجونها، وهو توصيف خارج عن نطاق القانون الدولي لا تحكمه قواعد الحرب ولا معايير العدالة. 

أُقِرّ هذا التصنيف بموجب قانون “المقاتلين غير الشرعيين” (Incarceration of Unlawful Combatants Law رقم 5762-2002)، الذي أقرّه الكنيست الإسرائيلي عام 2002.

يمنح هذا القانون سلطات الاحتلال صلاحية احتجاز أي شخص تعتبره “مشاركاً في أنشطة معادية لإسرائيل” من دون توجيه تهمة أو محاكمة، ودون الاعتراف به كأسير حرب يخضع لاتفاقية جنيف الثالثة، أو كمدني متهم يخضع لقانون الإجراءات الجنائية.

ووفق أحكام هذا القانون، يمكن إبقاء المحتجزين خلف القضبان إلى أجل غير محدد بناءً على “تقدير أمني” فقط، وتبقى جلسات التجديد أمراً شكلياً، كما بيّن أحد المحامين الذين تحدّث إليهم مركز سجل ممن لهم اطلاع على هذا الملف، حيث يتلخّص مضمون الجلسة غالباً بشاشة فيديو، وقاضٍ صامت، وقرار جاهز بتمديد الاحتجاز ستة أشهر أخرى، دون مرافعة، أو أدلة، أو الحق في الاطلاع على الملف السري الذي يُبقيهم محتجزين.

أين مكان وجود المحتجزين؟

تتوزّع أماكن احتجاز هؤلاء المصنّفين كمقاتلين غير شرعيين بين سجن مجدو شمالي الأراضي المحتلة، الذي يضم قسماً مخصّصاً للأسرى الأمنيين العرب، وسجن عوفر قرب رام الله، وسجن راكيفيت في الرملة المخصّص للموقوفين الإداريين والمصنّفين ضمن الفئة ذاتها.

في ظل هذا الإطار، يعيش المعتقل حالة قانونية معلّقة بين الفراغين: فهو ليس مدنياً تُحاكمه محكمة وفق إجراءات محددة وضمانات دفاع، ولا أسيرَ حرب تحميه اتفاقيات جنيف التي تُلزم القوة القائمة بالاحتلال بتوفير معاملة إنسانية ورقابة دولية. هذا الوضع الرمادي يحوّله فعلياً إلى كائن قانوني خارج التصنيف، تُقرّر سلطات الاحتلال مصيره بقرار إداري يستند فقط إلى تقديرٍ أمنيّ غير قابل للمراجعة.

وبغياب أي جهة رقابية مستقلة أو دور فعّال للجنة دولية في متابعة حالاتهم، تتكرّس عزلة المعتقلين السوريين داخل منظومة احتجاز مغلقة لا تخضع للمساءلة، حيث تُمدَّد فترات الاحتجاز كل ستة أشهر بقرارات شكلية تُصدرها محاكم عسكرية تابعة للاحتلال.

وبين حملات المداهمة المتكرّرة والتصنيفات القانونية الفضفاضة التي تُستخدم لتبرير استمرار الاحتجاز، يتحوّل ملف هؤلاء المحتجزين إلى قضية رمادية منسيّة، لا تتبنّاها الحكومة السورية الحالية ضمن ملفات الأسرى والمفقودين، فيما تكتفي المنظمات الحقوقية الدولية ببيانات عامة لا تذكر الحالات بالأسماء ولا تتناول تفاصيلها القانونية أو الإنسانية.

وهكذا، يبقى مصير عشرات السوريين في الجنوب معلّقاً بلا سقف زمني، رهينة قرارات أمنية متغيّرة تخضع لمزاج الأجهزة العسكرية والاستخبارية الإسرائيلية، في واحدة من أكثر القضايا غموضاً وتجاهلاً في المشهد السوري الراهن، حيث يتقاطع الفراغ القانوني مع الفراغ السيادي لتغيب العدالة تماماً عن حدود الجولان المحتل وما حوله.