مقدمة
شهد الجنوب السوري منذ سقوط نظام الأسد في أواخر عام 2024 تحولات عميقة أعادت رسم الخريطة الأمنية في المنطقة. فقد توسّع الاحتلال الإسرائيلي باتجاه العمق السوري شرق خط وقف إطلاق النار، وانتشرت قواته في مواقع جديدة شملت قمة جبل الشيخ، وتل أحمر غربي، وقرية معرية، وغيرها. بالتوازي مع تنفيذها نشاطاً يومياً تمثّل في إقامة حواجز وعمليات اعتقال وتوغّلات جوية وبرية ضمن محافظات القنيطرة ودرعا وريف دمشق. وفي الوقت ذاته، برزت محاولات دولية حثيثة لإعادة هندسة ترتيبات أمنية جديدة بين الاحتلال الإسرائيلي والحكومة السورية الجديدة.
ضمن هذا السياق المضطرب، زار وفدٌ روسي عسكري عدداً من مناطق محافظة القنيطرة بتاريخ 17 نوفمبر، وقد كانت المحافظة شهدت انتشار نقاط مراقبة روسية خلال الاتفاق الروسي-الأمريكي-الأردني عام 2017. ورافق الوفد مسؤولون من وزارة الداخلية السورية، حيث شملت الجولة قرى بئر عجم والبريقة ورويحينة وأم العظام والقحطانية وصولاً إلى مركز المحافظة، وتوقّف عند مواقع روسية سابقة في قرى الناصرية والحيران.
وقد أثارت هذه الخطوة تساؤلات متعدّدة حول أهدافها ودلالاتها، وما إذا كانت موسكو تسعى إلى استعادة دورها السابق كضامن أمني بين دمشق وتل أبيب، إضافة إلى بحث الفوائد المحتملة للحكومة السورية في حال قبول انتشار روسي من جديد، وكيف سيتعامل الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة مع مثل هذا التحرّك.
يستعرض تقدير الموقف هذا السياق التاريخي والسياسي للتطوّرات الأخيرة، بما فيها الزيارة الروسية وما تلا ذلك من مواقف اتخذها الاحتلال الإسرائيلي، ويقيّم الفوائد والمخاطر المرتبطة بإمكانية عودة الدور الروسي، كما يرسم سيناريوهات مستقبلية ويقدّم توصيات موجّهة للحكومة السورية.
أولاً: سياق الأحداث
الجنوب السوري بعد سقوط النظام
بعد الإطاحة بنظام الأسد في ديسمبر 2024 وتشكيل حكومة انتقالية، دخل الجنوب السوري مرحلة فراغ أمني واضح، الأمر الذي أتاح لقوات الاحتلال الإسرائيلي توسيع نطاق انتشارها في هذه المنطقة الحساسة. ففي يناير 2025، أبقى الاحتلال الإسرائيلي قواته على قمة جبل الشيخ (حرمون) داخل المنطقة الفاصلة، ورفضت الانسحاب رغم الانتقادات التي وجّهتها الأمم المتحدة، والتي اعتبرت هذا التمركز خرقاً لاتفاقية فك الاشتباك. وفي نوفمبر 2025، قام رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو بزيارة المواقع العسكرية الجديدة لقواته في جنوب سوريا، معلناً أن جيش الاحتلال الإسرائيلي لن يتخلّى عن هذه المواقع إلا في إطار اتفاق أمني جديد يشمل إقامة “حزام أمني” يمتد عدة كيلومترات شرق خط وقف إطلاق النار.
وفي موازاة هذا التوسّع، استمرت عمليات التوغّل اليومية. ووفق تقارير مركز سجل، بلغ عدد الانتهاكات التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في أكتوبر 2025 نحو 211 انتهاكاً، شملت 65 عملية توغل بري، و51 تحليقاً للطيران، و42 حاجزاً متنقلاً، و16 حالة اعتقال، و13 مداهمة، وثلاث عمليات قصف. وتركّزت هذه الانتهاكات في قريتي الحميدية والعدنانية قرب القنيطرة، حيث عزّزت القوات الإسرائيلية تحصيناتها، ودَفعت بجرافات لتوسيع الطرق، وهو ما أدى إلى تعطيل جزئي لخطوط الإمداد وتفاقم الضائقة المعيشية للسكان المحليين. وفي الأسبوع الممتد بين 15 و21 نوفمبر 2025، وثّق سجل نحو 51 انتهاكاً، منها 42 في القنيطرة، بينما سُجّل في يوم 22 نوفمبر وحده ثمانية انتهاكات شملت توغلات وإقامة نقاط تفتيش مؤقتة.
وتظهر هذه المعطيات حجم تغلغل الاحتلال في عمق الجنوب السوري، والتحوّل من هجمات محدودة النطاق إلى سياسة استنزاف ممنهجة وإعادة هندسة للمشهدين الأمني والاقتصادي معاً، بما قد يدفع الحكومة السورية للبحث عن قوة ضامنة قادرة على الحد من الاعتداءات المتكررة واحتواء ارتداداتها على المجتمع المحلي.
الدور الروسي السابق وترتيبات 2017
خلال سنوات النزاع في سوريا، لعبت الولايات المتحدة وروسيا والأردن دوراً محورياً في التوصل إلى وقف إطلاق النار في الجنوب، حيث أُعلن في يوليو 2017 عن اتفاق بين الرئيسين ترامب وبوتين في هامبورغ يقضي بوقف القتال وإنشاء آلية مراقبة. وفي نوفمبر من العام ذاته، تمّ توقيع مذكرة مبادئ تضمنت إنشاء مركز مراقبة في عمّان وعودة قوات نظام الأسد إلى الحدود مقابل منع وجود الميليشيات الإيرانية. وعلى ضوء ذلك، أُقيمت نقاط للشرطة العسكرية الروسية قرب خط الفصل لمتابعة تنفيذ الترتيبات، إلى جانب حواجز مشتركة مع قوات النظام، واستمر وجودها حتى أواخر عام 2024 عند انسحاب القوات الروسية بعد سقوط نظام الأسد، ما أدى إلى تفكّك منظومة المراقبة ودخول المنطقة في حالة اضطراب أمني. وفي نوفمبر 2025، برزت مبادرة من موسكو لإعادة تشغيل الدوريات الروسية على طول خط الفصل لتتولى مهمة الفصل بين القوات السورية وقوات الاحتلال الإسرائيلي، على أن يتم ذلك بالتنسيق مع الحكومة السورية الجديدة. كما تم تنفيذ زيارة ميدانية لوفد روسي إلى القنيطرة بالتنسيق مع دمشق، وشملت الجولة مواقع روسية سابقة، جرت دراسة إمكانية تحويل أحدها إلى مركز لوجستي جديدـ، بحسب موقع ذا كريدل.
موقف الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة

أعقب زيارة الوفد الروسي في 17 نوفمبر 2025 سلسلة خطوات مضادة أقدمت عليها إسرائيل بما يمكن عدّها كرسائل اعتراض مباشرة على التحرك الروسي.نفّذت قوات الاحتلال الإسرائيلي عدة توغّلات في ريفي القنيطرة ودرعا بالتزامن مع زيارة الوفد الروسي للمنطقة، كان أبرزها توغل في تل كروم الاستراتيجي بريف القنيطرة الأوسط، وتمركز دورية للاحتلال بمحيط قرية جملة بمنطقة حوض اليرموك بينما كان الوفد بين قريتي معرية وكويا المجاورتين. وفي أعقاب الزيارة، اتخذ الاحتلال الإسرائيلي سلسلة خطوات مضادة. فبعد يومين فقط، قام رئيس الوزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بزيارة ميدانية للنقطة المستحدثة في تلة قرص النفل شمال غرب حضر بريف القنيطرة الشمالي، وفي ذات التوقيت توغلت دورية في تل أحمر شمالي التل الذي زاره كان ضمن زيارة الوفد وتلى تلك الزيارة انتهاك يعد الأول من نوعه حيث دخل بتاريخ 20 نوفمبر 2025 سرب من الطائرات الحربية التابعة للاحتلال أجواء سوريا بدءاً من المحافظات الجنوبية وصولاً إلى محافظة اللاذقية وبعدها بيوم توغّلت دبابات الاحتلال في تل أحمر شرقي لمدة يومين جرى خلال تلك التوغلات رفع علم الاحتلال الإسرائيلي فوق التل. وبحسب مركز سجل شهدت مناطق الجنوب السوري ارتفاعاً ملحوظاً بالانتهاكات بنسبة 31 بالمئة في فترة ما بعد الزيارة (17-24 نوفمبر)، مقارنةً بما قبلها (9-16 نوفمبر). يُضاف إلى ذلك استخدام أسلحةٍ نوعية في هذه التوغّلات تحديداً، كاستخدام دبابات ميركافا في التوغّل الذي جرى بتاريخ 21 نوفمبر. لم يقتصر توجيه الرسائل على الأرض إذ صرّح نتنياهو خلال جلسة الكابينيت التي عُقدت بتاريخ 20 نوفمبر 2025 أنه لن يقبل بوجود قوات روسية على الحدود. الأمر الذي عكس توجهاً إسرائيلياً نحو فرض وقائع أمنية متقدمة في مواجهة أي ترتيبات محتملة قد تنتج عن الحراك الروسي.
وفي السياق نفسه، تُجري الولايات المتحدة مساع للوصول إلى اتفاق أمني بين الاحتلال الإسرائيلي والحكومة السورية الجديدة يحدّد خطوط الانتشار ويضع آليات للحد من الخروقات، إلا أن هذه الجهود تصطدم بعوائق واضحة ناجمة عن تمسّك الاحتلال الإسرائيلي بمواقعها داخل الأراضي السورية وتخوّفها من أي فراغ قد يسمح بعودة نفوذ إيراني عبر شبكات جديدة أو وكلاء ميدانيين محليين. ويضغط الاحتلال الإسرائيلي على واشنطن للحيلولة دون تعافي الدولة السورية أو إعادة بناء مؤسساتها الدفاعية بصورة تمنحها قدرة على استعادة السيطرة على الجنوب، مع الترويج لمعادلة تعتبر أن بقاء وجود عسكري روسي في سوريا يشكل توازناً مقبولاً مقارنة بخيار توسع النفوذ التركي أو صعود مجموعات مسلحة ذات توجهات إسلامية قد تحظى بدعم أنقرة.
وتكشف هذه المعادلة عن مقاربة براغماتية للاحتلال براغماتية إلى توظيف احتمالات العودة الروسية كأداة لضبط التوازنات وتقييد الأطراف الأخرى، شريطة أن لا ينتج عن هذا الوجود ما يقيّد توسّع الاحتلال على الأرض أو يقلل من هامش المبادرة العملياتية في الجنوب السوري. وبهذا يصبح المشهد مركباً، حيث يتحرّك الاحتلال الإسرائيلي على مسارين متوازيين: تعزيز السيطرة الميدانية وتعميق التغلغل داخل العمق السوري من جهة، ومن جهة أخرى توجيه رسائل ردعية إلى موسكو وواشنطن معاً مفادها أن أي ترتيبات أمنية جديدة يجب أن تُبنى على الاعتراف بمكاسبها القائمة وعدم المساس بها، وهو ما أكّده التطوّرات الأخيرة. ويضع كلُّ ذلك الحكومة السورية أمام معادلة حساسة تتطلب موازنة بين الحاجة إلى قوة ضامنة وبين عدم تكريس واقع احتلالي ممتد.
ثانياً: دوافع ومكاسب محتملة لعودة الروس بالنسبة للحكومة الجديدة: وقف التدهور الأمني وتثبيت خطوط الفصل
شهد كل من القنيطرة ودرعا في بعض مناطقهم تراجعاً ملحوظاً في مستويات الأمن نتيجة الغارات والانتهاكات المتكررة التي يرتكبها الااحتلال، حيث تظهر البيانات الرصدية الدورية لمركز سِجل تسجيل عشرات حالات التوغّل والاحتجاز في كل شهر، بما يعكس تحوّل الجنوب السوري إلى منطقة ضغط يومي على المجتمع المحلي. ويعمل الاحتلال الإسرائيلي على ترسيخ “أمر واقع” جديد من خلال شق طرق عسكرية واستخدام الجرافات لتوسيع مسالك الحركة، إضافة إلى إنشاء حواجز متنقلة تتبدّل مواقعها باستمرار، الأمر الذي يوسّع هامش انتشار الاحتلال ويقلّص قدرة الحكومة السورية على ضبط حدودها وممارسة سيادتها الفعلية على المجال الحدودي.
في هذا السياق، تبدو عودة القوات الروسية إلى تسيير دوريات في نقاط تماس حساسة قادرة على إحداث انخفاض في وتيرة الانتهاكات، إذ إن وجود قوة دولية كبيرة يعيد فرض قيود على مساحة مبادرة الاحتلال ويقلل من احتمالات الاحتكاك المفتوح، خصوصاً في المناطق التي تشهد احتكاكاً مباشراً مع السكان أو قرب خطوط التماس. كما يمكن لهذا الوجود أن يعيد إحياء صيغة المراقبة الثلاثية التي كانت قائمة بين الولايات المتحدة وروسيا والأردن، أو يعيد إنتاج آلية مراقبة بديلة تتضمن الحكومة السورية وتوفّر إطاراً مؤسسياً لإدارة الحدود وتقليص الهشاشة الأمنية، بما يمهّد لانتقال الجنوب من مرحلة الاستباحة المتكررة إلى مرحلة ضبط تدريجي يعيد الاعتبار لطبيعة المنطقة كفضاء خاضع لسيادة الدولة.
ثالثاً: التحديات والمخاطر
عدم قبول شعبي للوجود الروسي
على الرغم من المكاسب المحتملة لعودة الدوريات الروسية في الجنوب، يبقى هذا الوجود محمّلاً بإرث ثقيل في الوعي الجمعي للسوريين، نظراً لدور موسكو في دعم النظام السابق وما ارتبط بذلك من عمليات عسكرية واسعة خلّفت دماراً وخسائر بشرية. ويعكس الحراك الشعبي الذي شهدته محافظتا درعا والقنيطرة منذ عام 2024 حالة رفض متجذّرة لعودة أي قوة أجنبية، بما في ذلك روسيا، وهو ما يضع الحكومة السورية أمام تحدٍّ مزدوج يتمثل في ضرورة التعامل مع التهديدات الأمنية المتصاعدة من جهة، وإدارة الحساسية المجتمعية تجاه وجود عسكري خارجي من جهة أخرى.
ويستدعي هذا الواقع اعتماد مقاربة دقيقة تقوم على حصر تموضع القوات الروسية (في حال تم اعتماد هذا الخيار)، في مواقع غير مأهولة وبعيدة عن التجمعات السكانية، مع ضبط مهامها ضمن حدود واضحة تمنع الاحتكاك المباشر مع المدنيين أو التدخل في الشؤون الإدارية المحلية. كما يصبح من الضروري أن تعتمد الحكومة الجديدة سياسة تواصل شفافة مع المجتمعات المحلية، تشرح من خلالها أن هذا الوجود لا يمثل إعادة إنتاج لمرحلة سابقة، بل يأتي بوصفه خياراً اضطرارياً لاحتواء مخاطر الاحتلال الإسرائيلي والحد من التوغلات التي تستنزف الأمن والاقتصاد المحليين. وتسهم هذه المقاربة في تخفيف الاحتقان الشعبي وتقليل احتمالات التصعيد الداخلي، وتمنح الحكومة الجديدة مساحة أوسع لترسيخ شرعيتها في بيئة اجتماعية مضطربة تبحث عن حماية دون الارتهان لقوة خارجية.
مخاطر احتكاك بين الروس والاحتلال الإسرائيلي
يمكن لتموضع قوة دولية في نقاط متاخمة لتمركز قوات الاحتلال الإسرائيلي أن يفتح المجال أمام احتمالات تصعيد غير مقصود، لا سيما في حال تنفيذ الاحتلال الإسرائيلي غارة داخل الأراضي السورية أو تعرض دورية دولية لنيران خاطئة خلال نشاطها الميداني. ويعود ذلك إلى طبيعة البيئة العملياتية في الجنوب، حيث تتداخل خطوط الحركة العسكرية مع المجال المدني، وتتقاطع مناطق النفوذ بصورة تجعل هامش الخطأ أعلى من المعتاد. وقد لجأت روسيا في مراحل سابقة إلى نشر منظومات دفاع جوي لتأمين مواقعها، وهو ما أضفى بعداً إضافياً على معادلة الاشتباك المعقدة، إذ أن وجود قدرات دفاعية متقدمة على مقربة من نشاط الاحتلال يحمل في طياته مخاطر توتّر سريع في حال سوء تقدير أو قراءة خاطئة لنوايا الطرف الآخر.
ومن ثم فإن أي انتشار جديد يجب أن يخضع لتفاهمات دقيقة تنظم قواعد الاشتباك وتحدد نطاق استخدام القوة ومستويات الاستجابة، بما يشمل آلية واضحة لفض النزاعات الميدانية ومنع تكرار سيناريوهات الانزلاق نحو مواجهة غير محسوبة. وتتيح هذه التفاهمات للحكومة السورية هامشاً أوسع للتعامل مع التطورات دون الوقوع بين ضغط الاحتلال من جهة وحساسية الاصطدام مع قوة دولية من جهة أخرى، كما تمنح الأطراف المحلية الفاعلة إطاراً مؤسسياً يمنع التصعيد العرضي ويحافظ على استقرار نسبي في منطقة شديدة التقلب.
حسابات الاحتلال الإسرائيلي والأمريكية
قد ينظر الاحتلال الإسرائيلي إلى عودة الروس باعتبارها فرصة لتخفيف الضغوط الدولية المرتبطة بتجاوزاتها في الجنوب السوري، إلا أن هذا لا يعني استعدادها للتراجع عن المناطق التي تقدمت إليها منذ سقوط النظام. فقد جرى تأكيد بقاء قوات الاحتلال الإسرائيلي في مواقعها خلال الزيارة الميدانية التي نُفذت في نوفمبر 2025، بما يعكس تمسكاً واضحاً بالمكاسب الميدانية وعدم الاستعداد للتخلي عنها ضمن أي ترتيبات جديدة. وحتى في حال التوصل إلى صيغة مراقبة مشتركة مع الروس، يبقى بوسع الاحتلال الإسرائيلي الاستمرار في توسيع مناطق تحركها وانتشارها وفرض إجراءات تضبط الواقع الاقتصادي والاجتماعي في المناطق المحاذية، من خلال سياسات تتعلق بالتصاريح وتقييد حركة السكان، وهي ممارسات قائمة بالفعل في الوقت الراهن.
أما الولايات المتحدة، فتبدو أنها لا تُظهر استعداداً لمنح موسكو هامش نفوذ في سوريا، خشية أن يتحوّل هذا الحضور إلى رافعة سياسية تستعيد بها روسيا موقعها السابق. ويأتي ذلك في ظل تعثّر المساعي الرامية إلى صياغة اتفاق أمني جديد، إلى جانب وجود ضغوط للاحتلال الإسرائيلي مستمرة لإبقاء سوريا في وضع هشّ ومجزأ يمنع تبلور سلطة مركزية قادرة على استعادة السيطرة على حدودها.
ويؤدي هذا المشهد المركّب إلى تقليص قدرة الحكومة السورية على الاتكاء على طرف واحد لتوفير مظلة ضامنة، ويدفعها نحو تبني دبلوماسية متعددة المسارات تستند إلى موازنة دقيقة بين القوى الدولية والإقليمية، مع الحفاظ على هامش استقلالي يتيح لها إدارة أمن الجنوب دون الوقوع في ارتهان استراتيجي لأي جهة.
رابعاً: السيناريوهات المتوقّعة
السيناريو الأول: عودة شاملة للروس بإطار اتفاق دولي
في هذا السيناريو تُعقد صفقة بين الولايات المتحدة وروسيا والحكومة السورية والاحتلال الإسرائيلي تقوم على إعادة إحياء اتفاق 2017 مع تعديلات تعكس الواقع الجديد. تُنشأ نقاط مراقبة روسية (وربما دولية)، على طول خط الفصل وفي مناطق محددة في القنيطرة وريف درعا، وتُعتمد قواعد اشتباك تمنع قوات الاحتلال الإسرائيلي من التقدّم شرقاً، ويلتزم الاحتلال الإسرائيلي بالانسحاب التدريجي من المواقع التي احتلتها بعد ديسمبر 2024 مقابل ضمانات أمنية، فيما تتعهّد واشنطن بدعم الحكومة السورية اقتصادياً. ويساهم هذا السيناريو في الحد من انتهاكات الاحتلال ويمنح الحكومة السورية فرصة لإعادة بناء مؤسساتها.
أما احتمالات التنفيذ، فتظل مرتبطة بتوافق أميركي-روسي، والذي يبدو صعباً في ظل التوتر بين البلدين بسبب أوكرانيا، فضلاً عن معارضة داخل الاحتلال الإسرائيلي ترى في أي انسحاب شكلاً من أشكال التنازل.
السيناريو الثاني: عودة جزئية بالتنسيق مع الاحتلال الإسرائيلي دون اتفاق شامل
قد يسمح الاحتلال الإسرائيلي بعودة محدودة للروس إلى مواقع معينة بهدف التهدئة أو كنوع من تخفيف الضغط الدولي على الاحتلال بسبب انتهاكاتها المتكرّرة في الجنوب السوري، مقابل احتفاظها بمواقع استراتيجية شرق خط الفصل. وفي هذا السيناريو تنحصر مهام الروس في مناطق محدودة ولا تشمل الانتشار في المواقع التي كانت تنتشر فيها في عهد نظام الأسد، بينما قد تُقدّم الولايات المتحدة دعماً لهذه الخطوة بوصفها حلاً مؤقتاً ومناسباً، على أن ينشأ مسار تفاوضي طويل الأمد لبحث الملفات الكبرى. ويسهم هذا السيناريو في تخفيف جزء من التوتر، لكنه لا يوقف عمليات التوغّل والاعتقال، وقد ينتج عنه احتكاكات إضافية بسبب غموض خطوط الفصل وعدم وضوح نطاق الصلاحيات.
السيناريو الثالث: استمرار الوضع الراهن وعدم عودة الروس
إذا فشلت موسكو في الحصول على توافق مع الاحتلال الإسرائيلي أو إذا رفضت الحكومة السورية فكرة عودة الروس تحت ضغط الشارع السوري، فمن المرجّح استمرار الوضع الراهن مع توسع الاحتلال الإسرائيلي في القنيطرة وريف درعا، وارتفاع عدد الحواجز والاعتقالات. وفي هذا السياق تواصل الولايات المتحدة مساعي الوساطة من دون تحقيق تقدّم ملموس. ويؤدّي هذا السيناريو إلى مزيد من التدهور الأمني وتفاقم الأوضاع المعيشية في الجنوب، ويضع الحكومة السورية الجديدة أمام أزمة شرعية، في حين قد تستفيد من ذلك أطراف تخريبية تسعى للاستفادة من غياب مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية.
السيناريو الرابع: تدخّل أطراف أخرى
في هذا السيناريو يتجه الفاعلون المحليون إلى البحث عن بديل عن الروس عبر المطالبة بانتشار قوات مراقبة تابعة للأمم المتحدة أو قوة دولية ذات طابع حيادي، بما يمنح الجنوب مظلة أمنية لا تُثير حساسية الشارع ولا ترتبط بإرث النظام السابق. وفي مسار موازٍ، قد تسعى تركيا إلى خليط من الأدوات الناعمة (العمل الإغاثي) في الجنوب السوري، الأمر الذي يمنح أنقرة فرصة لتوسيع نفوذها الجيوسياسي خارج مناطق انتشارها التقليدي في الشمال.
وفي المقابل، ينظر الاحتلال الإسرائيلي إلى أي وجود مراقِب غير روسي باعتباره مصدر تهديد أكبر، سواء لقدرته على تقييد حركتها أو لارتباطه المحتمل بتوازنات دولية لا تستطيع التحكم بها، ما يجعلها أكثر تصلباً في رفض هذا الخيار. ويُدخل هذا السيناريو أطرافاً جديدة على مسرح الجنوب، ويرفع مستوى التشابك الإقليمي، ويزيد احتمالات الاحتكاك بين قوى دولية وإقليمية ذات أولويات متعارضة، بما قد يفتح الباب أمام دورة صراع أوسع تتجاوز الجغرافيا المحلية وتضع الحكومة السورية أمام بيئة أكثر هشاشة وصعوبة في الإدارة.
خامساً: سبل التعامل من قبل الحكومة السورية الحالية
لمواجهة هذه الاحتمالات، تحتاج الحكومة السورية الجديدة إلى رؤية شمولية تقوم على المصالح الوطنية وتستجيب في الوقت نفسه لمخاوف المجتمع المحلي، وذلك عبر مسارات متوازية تشمل ما يلي:
- الحوار المجتمعي: ينبغي للحكومة فتح قنوات تواصل واضحة مع الفعاليات المدنية في الجنوب لشرح دوافع أي ترتيبات أمنية مرتقبة، والاستماع إلى مطالب السكان ومخاوفهم. ويمكن إنشاء مجالس خاصة منتخبة تتولى الإشراف على مراقبة أي وجود أجنبي، بما يعزّز المشاركة ويحدّ من التوتر الشعبي.
- الشروط السيادية: في حال اعتماد انتشار روسي، يجب أن يتمّ ذلك ضمن إطار زمني محدد يضمن انسحاباً تدريجياً، مع منع أي توسّع مستقبلي للقواعد أو تجاوز لمهمة المراقبة. كما ينبغي التأكيد على عدم تدخل الروس في الشؤون الداخلية، بما يحافظ على استقلال القرار الوطني.
- تحسين المعيشة وتخفيف قبضة الاحتلال: بالتوازي مع المسار الأمني، من الضروري العمل على فتح ممرات اقتصادية بديلة تقلل من أثر القيود الإسرائيلية على الحركة والتجارة. ويمكن للحكومة دعم الزراعة المحلية، وتسهيل نقل المنتجات عبر مناطق أخرى في سوريا، بما يسهم في تخفيف الضغط المعيشي وتعزيز صمود السكان.
- تطوير قوات محلية منضبطة: يُعدّ بناء قوات شرطة وحرس حدود تابعة للحكومة ومن أبناء المنطقة خطوة أساسية للتقليل من الحاجة إلى قوات أجنبية وتعزيز الثقة المجتمعية.
خاتمة
تبيّن التطورات التي شهدها الجنوب السوري منذ سقوط النظام أن هذه المنطقة أصبحت فضاءً حاسماً في عملية إعادة تعريف موقع الدولة السورية داخل المشهدين الإقليمي والدولي. فتوسّع الاحتلال المتواصل شرقي خط وقف إطلاق النار، وما رافقه من إنشاء حواجز وتوغلات وضبط للحركة التجارية والمعيشية للسكان، أسهم في إعادة هندسة الواقع الأمني والاجتماعي بما يقلص قدرة الدولة على بسط سلطتها، ويضعها أمام تحدٍّ يتجاوز الحدود الميدانية ليصل إلى جوهر السيادة. وفي الوقت ذاته، أعادت موسكو إحياء اهتمامها بالمنطقة في محاولة لاستعادة دورها السابق بوصفها جهة ضامنة لترتيبات الفصل، بينما تسعى الولايات المتحدة إلى موازنة دقيقة تحول دون تمدد إيراني جديد أو توسع نفوذ تركي، دون أن تسمح بتعافي الدولة السورية بصورة تمنحها قدرة كاملة على إدارة حدودها واستعادة دورها الأمني.
في هذا السياق المعقد، تجد الحكومة السورية نفسها أمام اختبار متداخل المستويات، فهي مطالبة بإثبات قدرتها على حماية الحدود ومنع استباحة الاحتلال من جهة، والتعامل مع الحساسية الشعبية تجاه أي وجود أجنبي من جهة ثانية، والتفاعل مع منظومة مصالح دولية متعارضة من جهة ثالثة. وتعكس السيناريوهات المطروحة أن استقرار الجنوب لن يتحقّق تلقائياً، بل يرتبط بمدى قدرة الحكومة على تطوير مقاربة مرنة تستند إلى بناء مؤسسات أمنية محلية منضبطة، وتفعيل قنوات تفاوض هادئة للحدود، وتقليل الاعتماد على ترتيبات خارجية، وتخفيف الضغط الاجتماعي الناتج عن القيود المفروضة على السكان.كما يتضح أن ما يجري في الجنوب لا يقتصر على كونه حالة جغرافية منفصلة، بل يمثل مؤشّراً على قدرة الدولة السورية على استعادة دورها كفاعل منظم للعلاقات الأمنية والسياسية، وليس كطرف متلقٍّ لسياسات تُفرض من الخارج. ومن ثم فإن إدارة ملف الجنوب تشكل جزءاً من عملية أوسع لإعادة بناء شرعية الحكم وتجنب الفراغات الأمنية التي يمكن أن تستغلها قوى متشددة أو أطراف إقليمية منافسة. وبذلك يغدو الجنوب بوابة لإعادة صياغة نموذج جديد للدولة في سوريا ما بعد الصراع، نموذج يوازن بين ضرورات الواقع ومتطلبات السيادة ويمنع إعادة إنتاج الهشاشة التي مهّدت لجولات سابقة من التفكك.





