مستشفى جديد يُبنى بالقرب من منشأة عسكرية إسرائيلية في ريف القنيطرة الشمالي

في ريف القنيطرة الشمالي، وعلى تخوم الشريط الفاصل مع الجولان المحتل، يتشكّل مشهد جديد لا يمكن فصله عن سياسات الاحتلال الإسرائيلي طويلة الأمد في إدارة الحدود والنفوذ. الحديث هنا لا يدور عن مبادرة إنسانية معزولة، بل عن مشروع مشفى يُبنى في النقطة الأممية المهجورة بين قريتي حضر وعين التينة — وهما قريتان ذواتا غالبية درزية — بمحاذاة الشريط الفاصل، وعلى مقربة مباشرة من قاعدة قرص النفل العسكرية التي استحدثتها قوات الاحتلال مؤخراً في محافظة القنيطرة. الموقع بحد ذاته ليس تفصيلاً ثانوياً، بل يحمل دلالات سياسية وأمنية واضحة: نقطة أممية متروكة، فراغ سيادي، وقرب شديد من منشأة عسكرية إسرائيلية ناشئة.

المعطيات المتوافرة تشير إلى أن بناء المشفى لا يزال في مراحله الأولى، إذ تقتصر الأعمال حتى الآن على تجهيز البنية الأساسية وإدخال المواد الأولية. اللافت أن جميع التجهيزات ومواد البناء تدخل حصراً عبر بوابة مجدل شمس من داخل الأراضي المحتلة، وهو ما يؤكد أن المشروع يتم بإشراف وتنسيق إسرائيلي كامل، دون أي دور أو حضور للحكومة السورية، في ظل واقع الاحتلال المباشر والتحكم العسكري بالمنطقة. هذا المسار اللوجستي وحده كفيل بنفي أي ادعاء عن طابع محايد أو دولي للمشروع.

في الصور المتداولة من موقع البناء، تظهر منظمة GAIN Global Aid Network، وهي منظمة إغاثية دولية تنشط في مناطق أزمات مختلفة، ما يفتح باب التساؤل حول دورها الفعلي في المشروع: هل تقتصر مشاركتها على الجانب اللوجستي أو الإغاثي، أم أنها تشكّل واجهة مدنية لمشروع يُدار سياسياً وأمنياً من قبل الاحتلال؟ حتى اللحظة، لا توجد شفافية كافية حول طبيعة الاتفاق بين المنظمة والجهات الإسرائيلية، ولا حول شروط عمل المشفى أو الفئات التي سيخدمها فعلياً.

لكن على الصعيد التاريخي، ليست GAiN جهة جديدة في العمل الإغاثي بسوريا؛ إذ ظهرت أنشطتها في البلاد منذ حوالى عام 2013 وشاركت في حملات توزيع مواد غذائية وطبية ومواد إيواء بعد زلازل 2023 وغيرها من الأزمات.  كما تظهر دلائل لاحقة على أن بعض تدخلات المنظمة جرت بتنسيق عملي مع أجهزة إسرائيلية معنية بتمرير المساعدات عبر خطوط التماس. هذا التنسيق تزامن مع عمليات مساندة أُعلِن عنها رسمياً من قبل الحكومة الإسرائيلية خلال 2025 لإيصال مساعدات إلى الأقلية الدرزية في سوريا، حيث نشرت وزارة الخارجية وبيانات رسمية عن حملات توزيع وعبوات غذائية بلغ مجموعها آلاف الطرود التي نُفّذت بالتعاون مع جهات محلية وإسرائيلية. 

أخيراً، تُشير صفحات فروع GAiN في أوروبا وبريطانيا إلى أن المنظمة تعمل في مسارات إقليمية معقّدة وتدخل أحياناً عبر شركاء وسيطة لتجسير الحاجات الإنسانية لمستحقّيها — ما يوضّح أن علاقة GAiN مع السلطات الإسرائيلية كانت في الغالب عملية لوجستية وتنسيقية، لا تحالفاً سياسياً معلناً، لكن هذا التعاون العملي يكسب عمل المنظمة صبغة مختلفة عندما يُدرج ضمن سياسات أوسع للسيطرة والوصول عند طرفٍ مسلّح يهيمن على المعابر.  

هذا التطور لا يأتي من فراغ، بل يندرج ضمن سلسلة خطوات إسرائيلية سابقة في المجال الطبي داخل القرى السورية ذات الغالبية الدرزية. فقد عملت إسرائيل في سنوات ماضية على استحداث نقطتين طبيتين (مستوصفين): الأولى في قرية حضر، حيث أعلن الجيش الإسرائيلي رسمياً عن تشغيلها لتقديم الرعاية الطبية لأبناء الطائفة الدرزية، في خطوة قُدّمت إعلامياً كدعم إنساني. الثانية في قرية الحميدية، بالقرب من القاعدة العسكرية المستحدثة، لكنها غير مشغّلة حالياً وفق مصادر محلية، ما يطرح علامات استفهام حول جدواها الفعلية وأسباب تجميدها. إضافة إلى ذلك، تتحدث مصادر محلية عن نقطة طبية أخرى في قرية قلعة جندل ذات الغالبية الدرزية، الواقعة في جبل الشيخ، إدارياً ضمن ريف دمشق، ما يشير إلى نمط متكرر من التمركز الطبي في بيئات اجتماعية محددة.

قراءة هذا المشهد في سياقه الأوسع تكشف أن الطب هنا ليس مجرد خدمة، بل أداة من أدوات النفوذ الناعم. فإسرائيل، عبر الجمع بين القواعد العسكرية والنقاط الطبية، تعيد إنتاج معادلة قديمة: الحماية مقابل الخدمة، والرعاية مقابل القبول الضمني بواقع الاحتلال. في مناطق تعاني من تهميش صحي وانعدام البدائل، تصبح العيادة أو المشفى وسيلة تأثير لا تقل أهمية عن الحاجز العسكري. تماماً كما الأمر في مسألة المساعدات الغذائية التي رمتها قوات الاحتلال الإسرائيلي للقرى والبلدات مثل بلدات العشة وعين القاضي وبئر عجم في ريف القنيطرة التي واجهت رفضاً. سيّان ذلك في مسألة إعطاء ميليشيات الهجري المسيطرة على محافظة السويداء سيارة إطفاء، وتدريب وتأهيل 17 درزياً من السويداء في منشآت الإطفاء في الداخل المحتل بغلاف بالطابع الإنساني.

الأخطر في هذا النموذج أنه يندمج مع سياسات التحكم بالأرزاق ووسائل الحياة. السيطرة على الأرض، على المياه، على الحركة، ثم على العلاج، تعني عملياً التحكم في مفاصل الحياة اليومية للسكان. المشفى، في هذا السياق، لا يمكن فصله عن القاعدة العسكرية المجاورة له، ولا عن غياب الدولة السورية، ولا عن واقع القرى المعزولة بين خطوط التماس.

ولا يمكن فصل هذا التمدد «الناعم» عبر الأدوات الطبية والإنسانية عن التواجد العسكري الإسرائيلي الخشن والمتصاعد في الجنوب السوري. فبحسب التقرير الشهري الأخير (شهر نوفمبر) الصادر عن مركز سجل، شهد شهر واحد فقط 218 انتهاكاً ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي داخل الأراضي السورية، كان أبرزها 83 عملية توغّل بري و36 حالة تحليق جوي و35 نقطة تفتيش عسكرية، إضافة إلى مداهمات وتجريف بنى تحتية وإطلاق نار وقصف محدود. وتُعد محافظة القنيطرة من أكثر المناطق تضرراً، مع تسجيل كثافة لافتة في التوغلات والأعمال الهندسية وشق طرق عسكرية جديدة داخل الأراضي السورية. هذه الأرقام تكشف أن المشهد الإنساني الظاهر لا يجري في فراغ، ولا يحجب غرباله شمس الاعتداءات الإسرائيلية، بل يتواكب مع ضغط عسكري مباشر يعيد تشكيل الجغرافيا وحدود الحركة، ويمنح أي مشروع إغاثي يُقام في هذا السياق معنىً مختلفاً يتجاوز الطب إلى السيطرة الميدانية.

لا يعني ذلك إنكار الحاجة الفعلية للخدمات الطبية في هذه المناطق، ولا التقليل من معاناة المدنيين، لكن السؤال الجوهري يبقى: من يحدد شروط هذه الرعاية؟ ومن يمتلك قرار فتحها أو إغلاقها؟ عندما تأتي المساعدات عبر بوابة الاحتلال، وتُدار بإشرافه، وتُزرع في فراغ سيادي صنعه هو نفسه، فإنها تتحول من فعل إنساني إلى جزء من بنية السيطرة.

في المحصلة، يبدو مشروع المشفى بين حضر وعين التينة حلفة جديدة في سياسة إسرائيلية أوسع، تستخدم الأدوات الإنسانية لتكريس واقع أمني وسياسي طويل الأمد في الجنوب السوري. وبينما تُقدَّم هذه الخطوات بلغة الإغاثة والطب، فإنها تمارَس على الأرض بلغة النفوذ والتحكم، ما يستدعي مراقبة دقيقة، وتوثيقاً مستقلاً، ونقاشاً أوسعاً حول مستقبل هذه المناطق وحدود ما يُسمّى «المساعدة» تحت الاحتلال.